هل وجدت نفسك تقترب من شخص ما بكل ما فيك من شغف ثم تبتعد عنه فجأة وكأن داخلك قد انقلب رأسًا على عقب؟ أو ربما عشت تلك اللحظات التي تشعر فيها بأن مشاعرك تتحرك بسرعة يصعب عليك مجاراتها، فتتغير نظرتك إلى نفسك والآخرين خلال ساعات قليلة؟ كثيرون يعيشون هذه التقلّبات دون أن يفهموا سببها، فيجدون أنفسهم عالقين بين رغبة قوية في القرب وخوف عميق من الهجر في الوقت ذاته. وهنا يبدأ اضطراب الشخصية الحدية في الظهور، ليس كحالة من الضعف، بل كتجربة معقدة تمسّ القلب والهوية والمشاعر معًا.
وقد يشعر المصاب بهذا الاضطراب بأن داخله عالمًا لا يهدأ، وأن محاولاته للتماسك تبدو وكأنها أجنحة ترفرف بسرعة دون أن تجد مكانًا للهبوط. ومع مرور الوقت، قد تبدأ العلاقات في الانهيار، ليس لأنها غير مهمة، بل لأنها تُصبح ساحة تتصادم فيها مشاعر الخوف والحاجة، مما يجعل الشخص يعيش حالة من التقلب المستمر. ورغم صعوبة هذه التجربة، إلا أن فهم اضطراب الشخصية الحدية يمنح مساحة جديدة للهدوء، ويتيح فرصة حقيقية لبدء رحلة الشفاء.
ما ستجده في هذا المقال
- ما هو اضطراب الشخصية الحدية؟
- كيف يؤثر الاضطراب على الحياة اليومية؟
- الأعراض الأساسية وفق DSM-5R
- حساسية الرفض والهجر لدى المصابين
- الأسباب المحتملة وراء الاضطراب
- الأسس العصبية والنفسية للاضطراب
- صدمات الطفولة ودورها في تطور الحالة
- كيف يُعالج اضطراب الشخصية الحدية؟
- الأسئلة الشائعة
ما هو اضطراب الشخصية الحدية؟
يُعد اضطراب الشخصية الحدية حالة نفسية معقدة تؤثر على قدرة الشخص على تنظيم مشاعره، وفهم ذاته، وبناء علاقات مستقرة. ويتسم هذا الاضطراب بتقلّبات عاطفية حادة، وصورة متذبذبة عن الذات، وسلوكيات اندفاعية قد تُعرض الشخص للأذى. كما يرتبط الاضطراب بمعدلات مرتفعة من إيذاء النفس أو التفكير في الانتحار، وهو ما يجعل فهمه ومعالجته أمرًا بالغ الأهمية.
ويؤثر هذا الاضطراب على حوالي 2% من البالغين، ويظهر غالبًا في سنوات الشباب، مما يرفع مستويات الإعاقة النفسية وصعوبة الحفاظ على الاستقرار العاطفي. ومع ذلك، يُظهر الكثير من المصابين تحسنًا واضحًا مع العلاج المناسب، ويستعيدون قدرتهم على العيش بسلام ومرونة أكبر.
كيف يؤثر الاضطراب على الحياة اليومية؟
عندما يعيش الشخص مع اضطراب الشخصية الحدية، فإنه لا يواجه فقط اضطرابًا في المشاعر، بل يعيش صراعًا يوميًا مع ذاته وعلاقاته. فقد يشعر بقرب شديد تجاه شخص ما في لحظة، ثم يرى هذا الشخص مصدر تهديد في اللحظة التالية. وقد يختبر إحساسًا عميقًا بالفراغ يجعله يبحث عن معنى في أي علاقة أو تجربة، بينما يصبح الخوف من الهجر حاضرًا في كل حركة أو كلمة يسمعها.
وتنعكس هذه المشاعر على العمل، الدراسة، العلاقات الأسرية، وحتى النظرة الداخلية للذات. وقد يشعر الشخص بأنه غير قادر على الاحتفاظ بصورة ثابتة عن نفسه، فيتنقل بين شعور بالقوة وشعور بالعجز دون توازن واضح. ومع أن هذه التجربة مرهقة، إلا أن التعرف إلى جذورها يساعد على تخفيف شدتها، ويفتح بابًا لفهم أكثر رحمة للنفس.
الأعراض الأساسية لاضطراب الشخصية الحدية وفق DSM-5R
غالبًا ما يظهر الاضطراب في صورة مجموعة من السمات المتداخلة التي تتكرر عبر الزمن، وتشمل:
1. محاولات مستمرة لتجنب الهجر، حيث يبذل المصاب جهدًا كبيرًا لعدم فقدان الأشخاص المهمين في حياته، حتى وإن كان هذا الخوف قائمًا على تخيل لا على واقع.
2. علاقات متقلبة وغير مستقرة، تتأرجح بين المثالية المفرطة والانتقاص الشديد، مما يجعل العلاقة نفسها تبدو وكأنها تتحرك على حافة التناقض.
3. اضطراب في الهوية، يظهر في صورة تقدير ذاتي متذبذب يجعل الشخص غير قادر على رؤية نفسه بثبات أو تقدير متوازن.
4. الاندفاعية، حيث يميل المصاب إلى سلوكيات قد تؤذيه، مثل الإفراط في الإنفاق، العلاقات غير الآمنة، تعاطي المواد، أو القيادة المتهورة.
5. ميول انتحارية أو إيذاء النفس، نتيجة لمشاعر اليأس المفاجئة أو الحساسية تجاه الهجر.
6. تقلبات مزاجية حادة، تمتد لبضع ساعات أو أيام، وتظهر في صورة غضب أو قلق أو حزن شديد.
7. الشعور الدائم بالفراغ الداخلي، وكأن النفس تبحث باستمرار عن شيء لا يمكن الوصول إليه بسهولة.
8. غضب شديد وغير مبرر، يصعب تنظيمه أو السيطرة عليه، وقد يتجسد في صور لفظية أو جسدية.
9. أفكار هذائية مؤقتة تحت الضغط، تجعل الشخص يشك في الآخرين أو يعيش حالة من الانفصال عن الواقع.
10. أعراض انشقاقية، مثل فقدان الذاكرة أو الإحساس بالانفصال، خصوصًا تحت الضغط الشديد.
حساسية المصابين باضطراب الشخصية الحدية تجاه الرفض
من أعمق سمات هذا الاضطراب الحساسية الشديدة تجاه أي علامة على الرفض أو الهجر. فقد يشعر المصاب بالذعر عند تأخر رد بسيط في رسالة، أو عند تغيير بسيط في الخطط. هذه الحساسية ليست مبالغة، بل انعكاس لجرح داخلي قديم يجعل الشخص يخشى خسارة أي علاقة يشعر معها بالأمان.
وقد تقود هذه الحساسية إلى ردود فعل قوية، مثل الغضب، البكاء، التهديد بالرحيل، أو حتى إيذاء النفس في بعض الحالات. وبسبب صعوبة الحفاظ على الارتباط العاطفي أثناء البعد الجسدي، يشعر الشخص بأنه يفقد قيمته بسرعة، مما يجعله في حالة قلق لا تهدأ إلا بالطمأنة المستمرة.
الأسباب المحتملة وراء اضطراب الشخصية الحدية
على الرغم من عدم وجود سبب واحد محدد للاضطراب، إلا أن الأبحاث تشير إلى مزيج من العوامل الوراثية والبيئية، ومنها:
- العوامل الوراثية: إذ يظهر الاضطراب بنسبة أعلى بين من لديهم أقارب مصابون بالحالة نفسها، مما يشير إلى دور جيني محتمل.
- تجارب الطفولة المؤلمة: مثل الإهمال أو العنف أو الاعتداء العاطفي أو الجنسي، وهي عوامل تتكرر بين نسبة عالية من المصابين.
- الضغوط في مرحلة الشباب: قد يؤدي التعرض المتكرر للتوتر أو سوء المعاملة إلى تعزيز أنماط غير مستقرة من التعامل مع المشاعر والعلاقات.
الأسس العصبية والنفسية لاضطراب الشخصية الحدية
تشير الدراسات إلى وجود اختلافات في طريقة عمل الدماغ لدى المصابين، خاصة في المناطق المرتبطة بتنظيم الانفعالات:
- اللوزة الدماغية: وهي مركز الاستجابة للانفعال، وقد تُظهر نشاطًا زائدًا يجعل المشاعر أقوى وأسرع في الظهور.
- القشرة الجبهية الأمامية: وهي مسؤولة عن التهدئة وضبط السلوك، وقد يظهر فيها نشاط أقل لدى المصابين، مما يجعل تنظيم الانفعال أكثر صعوبة.
- النواقل الكيميائية مثل السيروتونين، التي تلعب دورًا في المزاج والسلوك الاندفاعي.
صدمات الطفولة ودورها في تطور الاضطراب
تُظهر العديد من الدراسات أن صدمات الطفولة — مثل الإهمال أو الاعتداء — ترتبط بقوة باضطراب الشخصية الحدية. ويبدو أن الجروح الأولى التي لم تُعالَج تشكل أنماطًا لاحقة من الحساسية العاطفية والبحث الشديد عن الأمان. وتشير الأبحاث إلى أن حوالي 80% من المصابين مرّوا بتجارب مؤلمة خلال الطفولة.
كيف يُعالج اضطراب الشخصية الحدية؟
يُعد العلاج النفسي الأساس في التعامل مع هذا الاضطراب، وهو يعمل على تنظيم المشاعر وبناء استراتيجيات للتعامل مع التقلبات. وتشمل الأساليب الأكثر فعالية:
- العلاج السلوكي الجدلي (DBT): يساعد المصاب على إدارة الاندفاعية وتنظيم المشاعر وبناء علاقات أكثر توازنًا.
- العلاج القائم على اليقظة (MBT): يهدف إلى تعزيز القدرة على فهم الذات والآخرين.
- العلاج السلوكي المعرفي (CBT): يوجه الشخص لتغيير الأفكار السلبية وبناء سلوكيات أكثر استقرارًا.
- العلاج الدينامي: يركز على فهم الجذور العاطفية العميقة للمشكلة.
- العلاج الفردي والجماعي: يوفر مساحة لفهم الذات والآخرين وبناء مهارات تواصل فعالة.
ومع الوقت، يُظهر العديد من المصابين تحسنًا كبيرًا، إذ يبدأون في فهم مشاعرهم بشكل أوضح، وتنظيم ردود أفعالهم، وبناء علاقات أكثر أمانًا واتساقًا.
الأسئلة الشائعة
هل اضطراب الشخصية الحدية قابل للعلاج؟
نعم، كثير من المصابين يتحسنون بشكل واضح مع العلاج المناسب، خاصة مع DBT والعلاجات المعتمدة على التنظيم العاطفي
هل يشفى المصاب تمامًا؟
يختلف الأمر من شخص لآخر، لكن الكثيرين يصلون إلى حياة مستقرة وهادئة بعد سنوات من العلاج والدعم
هل الأدوية فعّالة؟
لا تعالج الأدوية الاضطراب نفسه، لكنها قد تساعد في تخفيف أعراض مثل القلق أو الاكتئاب المصاحب
هل العلاقات ممكنة مع اضطراب الشخصية الحدية؟
نعم، بشرط وجود فهم، دعم، وعلاج يساعد الشخص على تنظيم مشاعره وبناء روابط صحية
وفي النهاية اضطراب الشخصية الحدية ليس حكمًا على الشخص، بل قصة عاطفية مليئة بمحاولات التماسك والبحث عن الأمان. وعندما يجد المصاب مكانًا يشعر فيه بالفهم والاحتواء، تبدأ المشاعر في الهدوء، وتصبح الحياة أقل قسوة وأكثر وضوحًا. والفهم — كما هو دائمًا — خطوة أولى نحو التغيير.
تذكّر، إذا وجدت نفسك ما زلت عالقًا بين البقاء والرحيل، فلا تشعر باليأس.
الحيرة ليست فشلًا، بل إشارة إلى أنك تحاول أن تكون صادقًا مع نفسك. والوعي
هو أول خطوة نحو القرار الصحيح.

0 تعليقات